المقدمة:
الحمد لله رب العالمين الذي وهب لنا وطن عظيم بخيراته وناسه وجعله الموطن الأول للبشرية وحضارتها التليدة إبتداء بحضارة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وعاد ذو الأوتاد إلى يومنا هذا. ثم كرمنا بأن جعلنا من نسل نبيه هود عليه الصلاة والسلام . فلا يوجد شعب عربي كرمه الله بأن جعل منه نبيين سوى شعبنا.
ففي حديث للرسول محمد صلى الله عليه وسلم جاء في صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل عن ذكر الأنبياء والمرسلين بأن أبي ذر سأل الرسول عن عدد الأنبياء العرب، فقال الرسول(( منهم أربعة من العرب : هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر)) .
وكرمنا الله على لسان هذا النبي العظيم وفي رسالته الشريفة أن خصنا بسورة من سور القرآن وهي الأحقاف.
وكرمنا رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن خصنا بمبعوث خاص من خيار رجاله هو زياد بن لبيد الأنصاري ورفيقه عكاشة بن ثور.
إن تاريخ شعب الجنوب قد حضي بمثل هذا التكريم الإلهي وأمتلك من العطاءات الإنسانية الحضارية الفريدة في هذه الأرض منذ ما قبل مليون سنة مع الأسف الشديد تعرض هذا التاريخ لأبشع صور التشويه والتزوير والسرقة والإهمال ما لا يتعرض له تاريخ أي شعب آخر في هذه الأرض، ولأن هذا التاريخ عظيم ومن الصعب محوه، فقد أحتفظ بالكثير من مقوماته، وكي ندلل على ذلك عملنا على رصد موجز له بالإستناد على الذكر الدقيق للمراجع والمصادر حتى نبين للأجيال الجديدة من أبناء شعب الجنوب تاريخهم كشعب مستقل على مر التاريخ، ونوجه لهم نداء أخوي إلى الإطلاع على هذا التاريخ العظيم والحفاظ عليه، فأي شعب لا يدرك تاريخه سيكون غير مدرك لحاضره وفاقداً لرؤية مستقبله.
عملنا هنا على وضع موجز لتاريخ شعب الجنوب ما قبل ظهور الإسلام. وقمنا بنشره مكتوباً ومسجلاً على شريط الكاسيت حتى يصل هذا العمل إلى كل مواطن جنوبي، ونأمل من كل من يصل إليه هذا العمل بأن يقوم بنشره بقدر ما يستطيع إلى كل مواطني شعبنا ويشرحه لهم، فهذا العمل هو مساهمة عظيمة في نضال شعبنا من أجل استعادة تاريخه وحقوقه ودولته وثرواته.
ماذا كانت تسمى أرض الجنوب؟
مرت أرض الجنوب بعدة تسميات نتيجة لطول الأزمنة التي عاش على أرضها الإنسان، وتكونت فيها الدول، ويمكن ذكر أهمها:
1. أرض إرم ذات العماد ــ نسبة إلى إرم بن سام بن نوح عليه السلام. الذي بنا مدينة إرم ذات العماد التي تم ذكرها في القرآن الكريم وتقول المصادر أنها تقع بالقرب من عدن وما زالت المنطقة تحمل اسمها إلى يومنا هذا.
2. أرض قوم عاد: نسبة إلى عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام .
3. شعب حضرموت: نسبة إلى حضرموت بن قحطان بن هود عليه السلام. وظلت هذه التسمية آلاف السنين.
4. العربية السعيدة: أطلق عليها الرومانيون واليونانيون بلاد العربية السعيدة نتيجة لغنائها وتصديرها للتوابل وفي مقدمتها البخور واللبان. بل كان يطلق عليها البعض بلاد اللبان.
5. في القرن الخامس عشر إلى الثالث عشر قبل الميلاد ظهرت عدة ممالك في أرض حضرموت:
· مملكة حضرموت: نسبة إلى حلالة بن حضرموت.
· مملكة قتبان: نسبة إلى قتبان بن ردمان بن وائل بن بيحان بن قطن بن حضرموت.
· مملكة أوسان: نسبة إلى أوسان بن وائل بن معاوية بن يعفر بن مرة بن حضرموت.
· مملكة كندة: نسبة إلى كندة بن مرة بن حضرموت.
6. المملكة اليزنية: نسبة إلى ملشان أريم ذي يزن بن عبدان وهم أحفاد قتبان. وكانت عاصمتهم وادي عبدان في مديرية نصاب (محافظة شبوة).
7. عند وصول الدين الإسلامي إلى جنوب الجزيرة العربية وتوحيدها تحت قيادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. سمي الجنوب بمخلاف حضرموت وشبوة.
8. في عهد الخلافات الإسلامية حكم الجنوب من قبل عدة ولاة.
9. منذ منتصف الألف الثاني الميلادي أصبح الجنوب يطلق عليه سلطنات وإمارات ومشيخات جنوب الجزيرة العربية.
10. في 19 يناير 1839م عندما أحتلت بريطانيا عدن أطلقتْ على الجنوب مستعمرة عدن والمحميات التسع.
11. في عام1937م مستعمرة عدن والمحميات الشرقية والغربية.
12. في عام 1959مستعمرة عدن وإتحاد إمارات الجنوب العربي.
13. في عام 1962 إتحاد الجنوب العربي.
14. في 18 نوفمبر 1967م، أعلن الزعيم قحطان محمد الشعبي من بيروت أن الجمهورية الوليدة سيكون أسمها (جمهورية عدن الشعبية وعاصمتها مدينة الشعب). لكن هذه التسمية تم تغييرها دون مبرر.
15. في 30 نوفمبر 1967م: جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية وعاصمتها مدينة الشعب.
16. في 22يونيو 1969م: جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وعاصمتها عدن.
الجنوب الموطن الأول للبشرية:
اختلفت المراجع والمصادر في تحديد الموطن الأول الذي هبطا فيه أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، لأن هذه المراجع والمصادر اعتمدت على الإخباريين والتكهنات. وتشير المراجع الإسلامية إن أبونا آدم وزوجته أمنا حواء هبطا في الأرض المقدسة في الحجاز (السعودية حالياً) حيث أورد ابن كثير في كتابه ( قصص الأنبياء ص62 ) أنه جاء عن عبدالله ابن عباس: قال((هبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دمنا بين مكة والطائف)) وقال عبدالله ابن عمر ((هبط آدم بالصفاء وحواء بالمروة)) وتجدر الإشارة أن قولي ابن عباس وابن عمر ليس حديثاً عن الرسول وإنما اجتهاد ذاتي.
أما المراجع الإغريقية واليونانية تشير إلى أن آدم وحواء هبطا في أرض يقال لها عدن.
ومع أن الرأيان لم يتم التدليل عليهما بالبرهان القاطع. غير إن الأخير يمكن الاعتداد به انطلاقا من الأول. فقد جاء عن الإمام ابن كثير في كتابه( قصص الأنبياء ص 75 )أن قابيل بعد أن قتل أخيه هابيل ((سكن في أرض نودٍ في شرق عدن، وهم يسمونه قيناً)) وقينا هو ميناء قنأ المعروف باسمه هذا إلى اليوم في منطقة بلحاف بمحافظة حضرموت إلى الشرق من عدن.
كما أورد ابن كثير روايات أخرى تقول أن أبونا آدم هبط في العراق وأخرى تشير أنه هبط في الهند. ومن خلال الرواية التي أوردها ابن كثير عن سكن قابيل في شرق عدن(قنأ)، كما أن هناك روايات تتحدث بأن قابيل قتل أخيه هابيل في جبل حديد بعدن، فأنه من المرجح والواقعية أن أبونا آدم وأمنا حواء هبطا في عدن، فقابيل وهابيل هم أولا أولادي أبونا آدم ــ أي في أول عهد أبونا أدم.
شعب الجنوب أول بانٍ للحضارة:
لم توجد أي دلائل حتى اليوم عن شواهد تاريخية للحضارة الإنسانية منذ هبوط أبونا آدم عليه السلام إلى الأرض حتى عصر النبي نوح عليه السلام، لأن الله غمر الأرض بالمياه(الطوفان) في عهد النبي نوح عليه السلام. بعد ما عصوا الله ورسوله ، لكن الله أنجى نبيه نوح والمؤمنون معه كما قال تعالى في سورة الأعراف ((فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآيتنا إنهم كانوا قوماُ عمين)) صدق الله العظيم.
وكان من بين الناجين ابن النبي نوح عليه السلام وهو سام ابن نوح الذي يعتبر قوم عاد من أحفاده وهم القوم الذين سكنوا في الأحقاف بحضرموت فعاد هو: عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام.
ويقول ابن كثير قوم عاد هم ((عرباً يسكنون الأحقاف، وهي جبال الرمل، وكانت ما بين عُمان وحضرموت ، بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر، واسم واديهم مغيث وكانوا كثيراً ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام.
ويقول ابن خلدون إن قوم عاد هم سكان جنوب الجزيرة العربية الأوائل وهم بناة أول حضارة عظيمة في هذا الجزء من العالم، وهم العرب العاربة، وقد وصفهم ابن خلدون في تاريخه (الجزء الثاني ص22) بأنهم(( أقدم الأمم بعد قوم نوح، وأعظمهم قدرة، وأول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه)).
بنى قوم عاد حضارة عظيمة ذكرها الله في عدة آيات من القرآن الكريم، حتى وصلوا إلى مرحلة الترف، وعبدوا الأصنام، لهذا أرسل الله تعالى النبي هود عليه السلام إلى قوم عاد. قال تعالى في سورة الأحقاف((واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قالوا أجئتنا لتأفكنا عن ألهتنا فأتنا بما تعدنا أن كنت من الصادقين )) و في سورة الذاريات قال تعالى(( وفي عاد أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم)) صدق الله العظيم.
لما حق عليهم الهلاك فارقهم النبي هود عليه السلام والذين معه ثم عصفت بديار قبيلة عاد بالأحقاف رياح صرصر حتى هلكوا، بينما أستقر النبي هود في منطقه شرق وادي حضرموت هو والذين معه، وكان فيهم ابنه قحطان بن هود ومات النبي هود عليه السلام في حضرموت ولا زال قبره معروفاً حتى اليوم في حضرموت.
ولكن الله لم يهلك كل قوم عاد وإنما أهلك الظلمة والمتكبرين، حيث جاء قوله تعالى في سورة هود ((ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين أمنوا معه برحمه منا ونجينهم من عذاب غليظ)) وجاء في قوله تعالى في سورة الأعراف((فأنجيناه والذي معه برحمه منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآيتنا وما كانوا مؤمنين)) صدق الله العظيم.
تطلق بعض المراجع على النبي هود هو عابر وبعض المراجع لا تأتي بهذا الاسم باعتباره كنيته ونسبه هو: هود بن عبدالله بن رباح بن الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح بن لامك بن منوشلج بن خنوخ ــ وهو إدريس بن يرد بن مهلائيل بن قنين بن أنوس بن شيب بن أدم أبي البشرية عليه السلام.
من روائع حضارة شعب الجنوب أن المراجع كانت إلى وقت قريب تؤكد أنها لم توجد أي أثار لفترة قوم عاد وأصحاب النبي هود عليه السلام من المؤمنين، لكن إحدى النقوش التي تم العثور عليها في شبوة تؤكد بما لا يدع مجال للشك عن هذا العهد، وأن شعب الجنوب هو الشعب الوحيد الذي أمن بالله وبرسوله هود. حيث جاء ذلك في عده نقوش ومنها هذا النص: ((أوس عم بن لبنة ولقيط وولده (أسماء أصحاب النقش) كسب وعمل بيته المسمى عاد مع واجهاته ومنشأته وصرحته وذلك بعون وتوجيهات النبي (هود) والله تعالى الكبير كله)).
حضرموت الأب الأول لشعب الجنوب:
أنجب النبي هود عدة أبناء من بينهم قحطان، والذي تطلق عليه بعض المراجع يقطن وقد جاء في (سِفر التكوين الإصحاح العاشر بالتوراة أنه: ((أنجب يقطن ثلاثة عشر ولداً وهم: تمود، وشالف، وحضرموت، وأوزال، وأفويير ، وشيبا، ويارخ ،وهدورام، ودقلة، وعوبال، ويارح، وحويله، ويوبان، وجميع هؤلاء بنو يقطن مساكنهم من ميشا حينما تجيء حتى سفار جبل الشرق)).
وجاء في كتاب الأمم السامية (لحامد عبد القادر ص84 )تفسيراً لنص التوراة ما يلي نصه(( المراد من ميشا حتى أسفار أي المنطقة الواقعة في الجنوب الشرقي من جزيرة العرب، وكانت القبائل الثلاثة عشر المنحدرة من قحطان تقيم هناك ومنها حضرموت التي سميت بلاد حضرموت بها، وأفوفير، وكانت تسكن مرفأ بحرياً أشتهر في التاريخ القديم، وحويلة: والمراد بحويلة بلاد الأحقاف والبلاد الرملية، وكانت إقليماً يحيط به نهر تسمية التوراة فيشون وقبيلة شيبا: وهي سبأ التي تنسب إليها الدولة السبئية، في مأرب.
نضيف لتفسير صاحب كتاب الأمم السامية أن (تمود) هو ثمود الذي سكن في وادي القرى بأعالي الحجاز، وأفيير هو المعافر الذي سكن في الحجرية محافظة تعز. باليمن حالياُ، وأن الميناء، هو المخآ، وعوبال (عُبيل) الذي سكن في الجحفة بين مكة والمدينة. أي أن أولاد قحطان سكنوا من ميشا (بشة في السعودية غرباً إلى المخاء جنوباً إلى سفار (جبل ظفار) شرقاً.
انتشار أبناء قحطان في جنوب الجزيرة العربية، أصبحوا يكونوا قسم من الأمة العربية، ثم انقسموا إلى شعبين رئيسيين سلاليا وجغرافياً(شعب حضرموت وشعب سبأ وهذا ما أوضحه وبينه أجل عالم ومؤرخ عربي وهو الإمام الحافظ عماد الدين أبو الفداء ابن كثير في كتابه (قصص الأنبياء باب (ذكر أخبار العرب ــ ص403) حيث أكد ((أن الجمهور (المؤرخون) أجمعوا أن جميع العرب ينتمون إلى قسمين: قحطانية وعدنانية، فالقحطانية شعبان: سبأ وحضرموت، والعدنانية شعبان أيضاً: ربيعة ومُضر ، أبناء نزار بن معد بن عدنان)).
وما نود أن نبينه هنا بأن حضرموت ابن قحطان ابن هود عليه السلام من بين أبنائه الذين وجدت أثارهم حتى اليوم هم: حلالة، مرة، قطن.
وقد أستطاع أبناء حضرموت وأحفاده أن يبنوا حضارة عظيمة تواصلاً مع أسلافهم من شعب الجنوب، وقد بينت الأبحاث والتقنيات أن هذه الحضارة تعود إلى فترات غابرة، وقبل أي حضارة أخرى حيث أسفرت تقنيات بعثة سوفيتية بمنطقة ريبون وعدة مواقع وكهوف بمحافظة حضرموت ومحافظة لحج والضالع سنة 1983ــ 1985م عن كشف أدوات أثرية أستعملها الإنسان في هذه المناطق في أزمنة العصور الحجرية القديمة أي ما بين ستمائة وثلاثين ألف سنة إلى ثمانية ألف سنة قبل الميلاد.
وفي تقرير للبعثة نشر في مجلة الحكمة شهر سبتمبر 1983م جاء فيه ((إن وجود هذه الآثار يعطينا اليقين الأساس بأن الناس عاشوا على هذه الأرض منذ مليون سنة وحتى الآن . . كما أن بعض الأدوات التي تم العثور عليها هي أقدم أدوات أزمنة العصور الحجرية القديمة. وتوجد لأول مرة ليس فقط في الجنوب وإنما في المنطقة كلها.
وتؤكد عالمة الآثار البلجيكية (جاكلين بيرن) في كتاب( شبوة عاصمة حضرموت القديمة)أنه ((من خلال الأبحاث التي أنجزت منذ عام 1976م يتضح أن التلال المطلة على شبوة تحتوي على آثار تدل على أن المنطقة قد سُكنت في العصر الباليوليتي (العصر الحجري القديم) وقد عثر على لقُى أثرية تعود إلى العصر الحجري الحديث) حوالي (4800) قبل الميلاد في وادي عطف على بعد بضعة كيلو مترات من أعلى شبوة، وكذلك أطراف الصحراء)).
شعب الجنوب صاحب خط المسند:
وجدت البعثة الفرنسية التي نقبت عن الآثار في حضرموت وشبوة آثار وكتابات لم تستطع معرفة تاريخها وأصحابها، وأنهم أول قوم من البشر استخدموا الألوان في الكتابة، وأطلقت عليهم أصحاب الخلايا (خلايا النحل) لأن آثارهم من منازل ورسومات تشبه خلايا النحل، مما جعل البعثة الفرنسية تضع علامة سؤال ((من هم الأقوام الذين كانوا يعيشون في السوط الجول؟ بالطبع لم تستطيع أن تتعرف عليهم من خلال نقوشهم .لقد عثروا بالفعل في سوط مرخة وكذلك في سوط جردان على حروف كبيرة صبغت باللون الأحمر تنتمي لأبجدية خاصة (ذلك الصباغ الأحمر في الحقيقة عبارة عن عصارة بعض النباتات) ويبدو أن تلك النقوش الحمراء المكتوبة بهذه الأبجدية كانت خاصة بسكان السوط (شبوة) حيث لم يكتشف فيها أي نمط من الكتابات القديمة الأخرى.
ولا نبالغ إذا قلنا أن شعب الجنوب هو أول شعب دوّن تاريخه قبل أن تدوّن البشرية ما يُعرف بالكتابات التذكارية ، وأنه هو الذي بدأ بكتابة الخط المسند الذي اشتقت منه هذه الكتابات، والحروف التي دونت بها شعوب جنوب الجزيرة العربية تاريخها.
لقد وجدت البعثة الفرنسية في كل من وادي جردان ووادي دُهر كتابات خاصة أقدم من عهد قوم ثمود. غير إن بعض رموزها وحروفها توجد في كتابات أخرى (الأقوام التالية) وجدت مثل هذه الرموز في النقوش الثمودية وفي الكتابة اللحيانية. وبعض الحروف توجد في الكتابة العربية الجنوبية، (الخط المسند) ولكنها أما مقلوبة أو منحرفة أو بذيل طويل.
وتؤكد البعثة الفرنسية أنها عثرت في وادي دُهر شمال شرق شبوة وعلى طريق وادي حضرموت الصحراوي على كتابات مصبوغة بالألوان تعود لعصر ما قبل الكتابات التذكارية. وعلى سبيل رموز ذات نمط ثمودي.
ومن الأهمية أن نذكر أن ثمود ابن قحطان سكن في منطقة الحجاز ــ المملكة العربية السعودية اليوم ــ مدائن صالح، و أنه من نسل ثمود ابن قحطان. فالنبي صالح عليه الصلاة والسلام، الذي أرسله الله إلى أخوانه أبناء ثمود في الألف الثامن قبل الميلاد، هو: صالح بن عُبيد بن ناسخ بن عُبيد بن حاجر بن ثمود بن قحطان بن هود ونتيجة لما حل بقوم صالح عليه السلام من عذاب الله تشير بعض المصادر أن الفرقة الناجية المؤمنة بما جاء به النبي صالح عادت إلى موطنها الأصلي حضرموت، وأن موطنها كان في ثمود بحضرموت التي مازالت تحتفظ بهذا الاسم إلى اليوم. وهي مديرية ثمود. وأن أثارهم من النقوش مازالت موجودة إلى اليوم في مواقع أثرية عدة في حضرموت. كما أن قبر النبي صالح عليه السلام ما زال موجداً في حضرموت.
وتقول البعثة الفرنسية في كتاب(شبوة عاصمة حضرموت القديمة) أنه قبل الخروج من الصحراء باتجاه قمم الجبال تستوقفنا صخور شاهقة تبرز من بين الكثبان الرملية المواجهة لشبوة (عاصمة حضرموت) إنها( جبل ناصر) وعلى الحوافر السفلي لتلك الصخور نرى نقوشاً ثمودية ورسوم يدوية)) ولم نعثر على نقوش سبئية في هذا المكان. ولم نجد إلا بعض الشواهد للثموديين على طريق جبل (ماجا) وذلك على مسافة نصف ساعة من شبوة.
في شرج بكيل وادي عرمة في شبوة عثرت البعثة الفرنسية على نصب تذكارية للمقابر ما زالت ماثلة إلى اليوم. أكدت البعثة أنه يمكن بالمقارنة بالنصب التذكارية التي عُثر عليها في المملكة العربية السعودية. شمال غرب مدائن صالح التي تنسب لمنطقة العلا أو تيماء، وأنه يمكن إرجاعها تاريخياً إلى فترة ما قبل ظهور الثقافة التذكارية للجنوب العربي أي في القرن السادس قبل الميلادي وربما في فترة أقدم.
هذه الاكتشافات المادية أثبتت ما يلي:
1. أن شعب الجنوب هو من دوّن تاريخه قبل الكتابات التذكارية التي عرفتها البشرية منذ سبعة ألف عام.
2. إنه أول من استخدم الإصباغ (الألوان) في الكتابة.
3. قوم ثمود عاشوا على أرض الجنوب.
4. شعب الجنوب هو صاحب الخط المسند.
5. أنها لا توجد أي أثار للسبيئين في أرض الجنوب.
ويشير الدكتور بافقيه في كتابه (تاريخ اليمن القديم) أن علماء اللغات يطلقون على اللغة التي يتحدث بها أهل المهرة وسقطرى والشحر باللغة العربية الجنوبية الحديثة . وقد لمس العلماء كثير من أوجه التشابه بين قواعد هذه اللغة والقواعد التي أتبعت في النصوص المسندية القديمة.
وتتكون إبجدية المسند من 29 حرفاً أو رمزاً للحروف تمثل أصوات الحروف العربية الحديثة أو بالأصح العربية الشمالية ــ بزيادة صوت واحد ينطق من مخرج قريب من السين ــ بين السين والشين . ومازالت أثاره باقية في المهرة وحضرموت ومعظم مناطق الجنوب. ففي المهرة تتكرر لفظ( السين والشين) صوت غريب يذكرنا في نفس الوقت بالصوت الذي يرمز إليه بحرفي في الإئل ( ll ) في لغة ويلز السيلنية الإنجليزية.
ومن الكلمات المهرية التي نجد فيها الحرف( شخوف)حيث تنطق الشين من مخرج بين السين والشين وتشبه الثاء، وتعني كلمة (شخوف) اللبن، ويقابلها في بعض لهجات البادية الحضرمية كلمة (شخب) التي تعني اللبن.
الممالك القديمةالتي ظهرت في الجنوب:
بعد مرور أكثر من ثمانية إلى تسعة ألف عام على بناء حضارة قوم عاد ثم حضرموت بن قحطان بن هود عليه السلام، ونتيجة للتكاثر السكاني الذي كان سائد في الجنوب حينها تم إعادة التقسيم الإداري مما نتج عنها قيام أربع ممالك مستقلة هي:حضرموت ، قتبان، أوسان، كندة في وقت واحد، ثم دولة اليزنيون التي ورثت هذه الممالك كلها.
وتشير المراجع المتوفرة لدينا ومنها كتاب البروفيسور الألماني كلاوس شيبمان ــ الممالك القديمة في جنوب الجزيرة العربية ــ أن هذه الممالك ظهرت كدول على أقل تقدير في القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وأن هذه الممالك بنت حضارة إنسانية رائعة، فمملكة حضرموت التي كانت المملكة الرئيسية والكبيرة لم تبسط نفوذها من الحجاز شمالاً إلى عدن جنوباً وإلى ظفار في عمان شرقاً وإنما وصل حكمها إلى ما وراء البحار. ففي عهد يدع إيل ــ ملك حضرموت الذي حكم في القرن الأول الميلادي يقول ابن خلدون في تاريخه الجزء الثاني ص22. إن هذا الملك (سكن صنعاء أي حكمها ــ وهو أول من غزا الصين وبلاد فارس ، وأول من أدخل صناعة الحرير. و تجدر الإشارة أن المؤرخ العظيم ابن خلدون عندما يذكر حضرموت يقول وإلى هذه البلاد تعود أصولي أي نسبه.
وترى البعثة الفرنسية أن شعب الجنوب أول من استخدم العملات، فالعملات التي تم العثور عليها في وادي جردان كانت تحمل (شقر) القصر الملكي في شبوة تمكنا من تحديد نوع العملات المستخدمة في مملكة حضرموت. وتعتبر مجموعة العملات البرونزية هذه نادرة، وهي الوحيدة المعروفة في جنوب الجزيرة العربية وتوجد نماذج منها في المتحف البريطاني (لندن) وفي متحف أشمولين(أكسفورد) وقطع أخرى عثر عليها في خور روري (ظفار) بعُمان ويمتلك كل من متحفي عدن وشبوة بالإضافة إلى نماذج من العملات الحضرمية نماذج لعدد من العملات الذهبية والأكسومية عثر عليها في منطقة المذربة غرب عدن.
أما مملكة قتبان فأنها أول من دوّن التاريخ في حياة البشرية، وحدث ذلك في عهد ملك قتبان(شهر يجل يهرب) فعندما تربع على عرش مملكة قتبان دوّن نقش وأعتبر أول يوم في حكمه هو بداية الحساب التاريخي، وكان ذلك في العام (115 قبل الميلاد)، وهو التاريخ الذي يطلق عليه جزافاً ومغالطة بالتاريخ الحميري بينما هو التاريخ القتباني. كما تركت هذه المملكة أول قانون تجاري للبشرية.
أما مملكة أوسان، فأن عظمتها تمثلت في قوة قدراتها التجارية مع العالم وتوسع نفوذها إلى أواسط أفريقيا حتى أن الساحل الأفريقي وجدت فيه نقوش تسميه الساحل الأوساني، وقد وجد نقش في وادي مرخة مقر حكم أوسان يثبت بما لا يدع مجال للشك أصول شعب الجنوب إلى حضرموت وجده هود عليه السلام وتوحيد شعب الجنوب لله العلي القدير والإيمان والإعتزاز بنبيه هود عليه السلام، فرغم حدوث بعض التشوهات في أساليب عباداتهم حيث جاء في النقش:
((أبو شبام (صاحب النقش) من أتباع عم يدع أقنى (أهدى) أميره يصدق الله أل الشريعة ــ ملك أوسان بن الإلة ود وذلك صلم ذهب أوصله إلى معبده محل نعمان طلباً لرعايته وحماية أبنائه فهو من نسل إلهي والإله (النبي هود).
دولة اليزنيون :
أكدت المصادر التاريخية والنقوش أن زوال مملكتي أوسان وقتبان كان في نهاية القرن الثاني الميلادي على يد أخوتهم في مملكة حضرموت . ثم كانت نهاية مملكة حضرموت في منتصف القرن الثالث الميلادي ، لكن بعض المصادر زورت حقائق التاريخ ، وأشارت أن حضرموت انتهت على يد ملوك حمير ، والحقيقة التي لا تقبل التزييف أن مملكة حضرموت انتهت على يد اليزنيون ـ فمنهم اليزنيون ؟؟
اليزنيون : يعود نسبهم إلى ذي يزين بن عبدان أحد أحفاد قتبان ، وسمي موطن سكنهم عبدان وادي في مديرية نصاب محافظة شبوة ، وسمي قصرهم ( بيت ذي يزن) نسبة إلى والدهم ( ذي يزن ) ، وكانوا أقيال في عهد مملكة قتبان ثم حضرموت . وفي عام 275 ميلادية قاد القيل ( ملشان بن أريم ذي يزن بن عبدان ) حملة ضد مملكة حضرموت ، فالتفت حوله معظم قبائل الجنوب ، حتى أسقطها . ثم قاد حملات أخرى وسع فيها حكمه إلى كل مناطق جنوب الجزيرة العربية وكان أولها القضاء على مملكة سبأ، ودون أول نقش في مقر حكمه في عبدان أطلق على ذاته ( قيل مشرقن وضيفتي ) ومشرقن تعني حضرموت إلى ظفار ، وضيفيتي تعني: الإضافة أو التابعة وتعني : (حمير وسبأ ) وكان أول من أسس نظام التتابع(التبع) في الحكم ، لهذا لقب هو وأبنائه وأحفاده ومنهم الثائر سيف بن ذي يزن بالتبع لأنه حكم إضافة إلى ارض حضرموت حمير وسبأ وكندة . واستمر حكم أسرة ذي يزن لجنوب الجزيرة العربية حتى وصول الإسلام وقد ذكرهم النبي محمد صلى لله عليه وسلم في رسالته. أي في مطلع القرن السابع الميلادي . مع الأسف أن من يطلق عليهم مزوري التاريخ بأنهم تبع حمير هم اليزنيون .
كيف أتت تسمية اليمن وما هي حقيقة هذه التسمية ؟
لقد أوضحنا سابقاً من خلال عرض التسميات التي مر بها الجنوب أن كلمة اليمن لم تكن موجودة مطلقاً ، وأنها دخلية على وقائع تاريخ الجنوب ، وأن هذه التسمية مجرد أكذوبة استعمارية وجدت في عهد قريب .
ويقول الدكتور محمد عمر بافقيه في كتابه(في أرض السعيدة الجزء الثاني ص 270)
((أن أول ما نلاحظه بهذا الصدد هو أن اللفظة بصورتها هذه (يمن) لم تُعرف في النقوش (السبئية والحضرمية والقتبانية والأوسانية والمعينية واليزنية) حتى أحدثها الذي يعود إلى فترة إزدهار الشعر الجاهلي في القرن السادس الميلادي، وإنما عُرفت محلها وبإنتظام لفظة أخرى من الجذر نفسه هي (يمنت) التي ينطقها البعض يمنة ويمنات على غير قياس يعتد به، والتي ذهبنا إلى أنها قد تكون(يمنة) بفتح الياء أو ضمها وتسكين الميم أو فتحها. فيمنة عند العرب تعني الجنوب، وهي المقابل ليمن عند عرب الشمال. وكلاهما يعني في الأصل واحداً وهو الجنوب لا أكثر ولا أقل)) انتهاء الاقتباس.
ومن جانبنا نضيف أنها وردت كلمتي (يمن وشام) في النقوش القتبانية. أما في النقوش المعينية والسبيئية (يمنات وشامات) وهي تعني (يمنات الجنوب) و(شامات الشمال)، وبينت هذه النقوش إنها لا تعني منطقة بعينها وإنما اتجاه جغرافياً انطلاقا من المكان أو النقطة التي يقاس منها الاتجاه.
لكننا نجد أن النقوش السبيئية كانت في العادة تطلق كلمة (يمنات) على المنطقة الواقعة بين كل من يريم محافظة إب المقر الثاني للدولة اليزنية أو ما يطلق عليها جزافاً بالدولة الحميرية إلى بلاد المعافر (الحجرية) محافظة تعز. ومصطلح شامات يطلق على المنطقة الواقعة شمال مأرب (صعدة نجران..إلخ).
وكانت عندما تُذكر ممالك حضرموت أو قتبان أو أوسان في النقوش السبيئية تقول (مصر حضرموت) أي قطر
أو بلاد حضرموت أو مملكة حضرموت.
ونورد الأدلة التالية على صحة ما قاله المؤرخ الجليل بافقية من خلال ما يلي:
1. أن كلمة الشام تطلق اليوم على شمال الوطن العربي مثل (سوريا وفلسطين ولبنان والأردن).
2. كان الحجاج المسافرين الذين يتوجهون لإداء فريضة الحج من (المهرة شرقاً إلى باب المندب غرباً إلى الضالع شمالاً إلى شبوة شرقاً كانوا يطلقون على مكة المكرمة أرض الشام. ومازالت هذه التسمية معروفة إلى اليوم. وذلك لأنها تقع باتجاه الشمال.
3. حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي ( القرن العشرين ) كان المواطن الجنوبي المتجه إلى المناطق الجنوبية من المملكة المتوكلية اليمنية ثم الجمهورية العربية اليمنية ( تعز ، إب ، الحديدة ) يقول سوف اذهب إلى اليمن ، وهي نفس التسمية التي كان يطلقها عليها السبئيون (يمنات).
نأمل بهذا العرض الموجز للتاريخ الجنوب قد أعطينا لمواطني ومناضلي شعب الجنوب رجال ونساء وشباب وشيوخ ــ صورة واضحة وقاطعة معمدة بالحقائق.